لم يقع إجماع بين مختلف أطراف حقل من الحقول حول فشله الذريع والمحقق كما وقع في الحقل التربوي ذلك أن الجهات الرسمية وغير الرسمية أقرت جميعها بفشل المنظومة التربوية و أعلنت عن ذلك رسميا، واقترح بديل لإصلاحها يتمثل في خطة استعجالية يعتقد أنه بإمكانها إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وتتعدد تحليلات أزمة المنظومة وتخريجاتها بتعدد الأطراف ، ولكن القاسم المشترك بين هذه الأطراف هو البحث عن الشماعة لتبرئة الذمة من فشل المنظومة ـ والحالة أنه لا براءة لأحد الأطراف ما دام الفشل يهم الجميع ـ وكذلك البحث عن كبش ضحية كما يقال لينسب إليه ما حل بالمنظومة من آفة . والحقيقة التي قد تنكرها بعض الأطراف في الظاهر مع إقرارها في الباطن رغما عنها هو قسطها من المسؤولية عن تردي أوضاع المنظومة . وفي اعتقادي أنه بعد لم شتات العوامل المؤثرة في فشل المنظومة نجدها تصب في قضية جوهرية أسميها غياب الضمير المهني. والضمير المهني هو تلك السلطة المضمرة الخفية التي تحكم عمل وأداء كل الأطراف ذات العلاقة بالمنظومة التربوية من قريب أو من بعيد. والمؤشر على غياب هذا الضمير هو الاستسلام أمام وضعية فشل المنظومة واعتبارها قدرا لا مفر منه ومن ثم تكييف العمل حسب هذه القناعة أي العمل بالوتيرة المناسبة للفشل وليس بالوتيرة الناهضة بالمنظومة. وكل طرف يحاول كسر طوق هذه القناعة السلبية يعتبر نشازا بين الأطراف المعنية بالمنظومة مما يعني تكريس حالة تغييب الضمير المهني الحي بشتى الطرق والوسائل . وخلافا للمعهود وهو وجود قاعدة ضيقة لتكريس هذه الحالة في الماضي ـ وعزلتها داخل أسرة المنظومة ـ صرنا اليوم أمام قاعدة طويلة عريضة تمارس هذا التكريس ليس بالصمات كما جرت العادة بل بالجهر به والدفاع عنه باستماتة تثير الاستغراب وفي شكل جماعات ضغط أو لوبيات. وتقف وراء هذا التكريس فلسفة ذرائعية تبرر تعطيل الضمير المهني بسبب تنامي ظاهرة غيابه بعدما كان الأمر لا يتجاوز قناعة حالات تعد على رؤوس الأصابع . ولقد أثر غياب الضمير المهني الحي ـ وهو رقابة داخلية عتيدة ـ على رقابة القانون الخارجية ـ وهي رقابة تظل بلا مفعول أمام فتور الرقابة الداخلية ـ . والغريب في الأمر أن الأطراف التي لا زالت على قناعتها بفعالية رقابة الضمير المهني أصبحت تعيش غربة بين الأغلبية المنساقة بسبب عدوى اليأس وراء معطلي الضمير المهني وهي أغلبية أقرت بنهاية عهد الضمير المهني حامي المصلحة العامة وبداية عهد سيادة غياب الضمير المهني من أجل تحقيق المصالح الخاصة. ولقد أصبح المتشبث بقناعة الضمير المهني الحي موضوع تندر وسخرية عند من يعدمون هذا الضمير لأنه في نظرهم يحوم خارج سربهم ، ويغرد خارج لحنهم ، بل ويسبح ضد تيارهم الجارف. ولا زلت أذكر قولة قائل حاول إقناعي بنهاية عهد الضمير المهني الحي في حقل المنظومة التربوية : ” شأنك ـ وأنت تتحدث عن الضمير المهني الحي ـ كشأن من يريد تنظيف مزبلة كبرى” وكان جوابي عليه : ” صدقت في تمثيلك للوضعية الفاسدة للمنظومة ، ولكنني أخالفك الرأي لأنني مقتنع بجدوى تنظيف بقعة صغيرة من المزبلة أجدني مضطرا للجلوس فيها ، ولو حذا حذوي غيري لكانت النتيجة نظافة المزبلة برمتها بعد مرور وقت معين ” إن الخطة الاستعجالية التي لا تراهن على عودة الثقة بالضمير المهني الحي مآلها الفشل الذريع . فقد تكون نتائج أصحاب الضمائر المهنية الحية متواضعة في البداية لقلة خبرتهم ولكنها ستكون عبارة عن بداية سليمة لانطلاق قاطرة المنظومة انطلاقة موفقة تتنكب مسارات الانحرافات المؤدية إلى الهاوية كما هي الوضعية الحالية والتي لن تبقي للمنظومة من باقية في ظروف تكريس غياب الضمير المهني.