في الوقت الذي تُطرح فيه إشكالية التخلف التربوي في المجتمع العربي على كل لسان بما في ذلك رجال التربية أنفسهم ورجال السياسة وعلم الاجتماع ، يأتي كتاب الدكتور علي وطفة أستاذ علم الاجتماع التربوي في كلية التربية بجامعة دمشق :
" بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في المجتمع العربي " ليكشف عن جذور هذه الإشكالية ويرصد مظاهرها في الواقع التربوي العربي موظفا خبرته الميدانية والعلمية التي اكتسبها خلال عمله أستاذا في أكثر من جامعة عربية .
يكشف الكاتب في مقدمة الكتاب أن الإنسان يصارع تاريخيا من أجل الحرية وهو في الوقت نفسه يسعى من أجل السلطة والمزيد من الهيمنة ، حيث أن الصراع بين هذين الاتجاهين شكل ومازال يشكل المحور الأساسي لوجوده، ومنه تتشعب كل القضايا الإنسانية الأخرى من فرح وبؤس وحزن وبناء وتدمير .
ويستعرض الكاتب الآراء المختلفة حول نزعة العنف والتسلط عند الإنسان ، فبينما يرى جان جاك روسو "أن الإنسان خير بطبعه ، والثقافة والتربية التي يتلقاها الفرد هي السبب في تكوين نزعة العنف والتسلط لديه" يرى الفريق الآخر ك سبنسر "أن نزعة العنف متأصلة في الإنسان ويجب أن تستأصل منه بالعنف ". هل التربية التسلطية في المحصلة ، تؤدي إلى استئصال أو تخفيف العنف أم تؤدي إلى تدجين الإنسان و كسر شوكته لخدمة المتسلطين ؟
هذا هو موضوع البحث الذي يكتسب أهمية محورية ، ولا سيما في وطننا العربي اما لهذا الأمر من دور تفتق إمكانات وقدرات الشباب العربي ليواكب عصر الثروة المعلوماتية .
مظاهر التسلط و العنف في التربية العربية المعاصرة
ينقسم الكتاب إلى ثمانية فصول ، ويرى الدكتور وطفة في الفصل الأول أنه لا انفصال للحياة الديمقراطية أو التسلطية لسلطة ما عن الأساليب التربوية الديمقراطية أو التسلطية للأسرة أو المدرسة أو للحياة التربوية بشكل عام مستشهدا بقبول خلدون النقيب "تضطهدنا الدولة ،ويقهرنا الإرهاب ،فنضطهد أبناءنا نرهبهم ، حتى يلتزموا بقيم وأنماط سلوكية ، لا تنبع من واقعهم الجديد ، وإنما تنقل لهم من مجتمع قديم ، وقد كفت هي أن تكون مفيدة وإيجابية".
كما أن أفلاطون - فيلسوف الإنسانية الأول- دعا إلى التربية الديمقراطية لبناء الإنسان الحر جسما وروحا وعقلا ، بينما لجأ طغاة التاريخ إلى ترسيخ الأساليب التعسفية والتسلطية في المجتمع ولا سيما في المنزل و في مؤسسات التعليم عامة لإدراكهم ما للتربية الديمقراطية من عصيان وتمرد على كل ما هو ظالم .
يرى الدكتور وطفة أن الثقافة التربية العربية في مجملها ثقافة تعتمد على المفاهيم المختلفة والمبنية على الأسس الهتلرية ، و لا بد من وضع اليد على الجرح لتجاوز شيء من هذا الواقع ، لأن مجتمعنا مجتمع محافظ يرفض التغيير إلا في حالتين : عندما يرفض من الخارج وعندما يكون التغيير ضرورة حيوية للحفاظ على الذات . و هذه الثقافة وتتبلور في الأمثال الشعبية ( اكسر للعيل ضلع بيطلعله اثنين) (يلي ما بيقسى قلبه ما بيربي ولدو). هذه المفاهيم التي تنمي مشاعر الضعف و النقص والقصور والدونية و الإحساس بالذنب وشل قدراته الذهنية و العقلية . فالمدرسة تعلم الطفل الطاعة و الخضوع دون مراعاة لحاجته و أحاسيسه . و كذلك حتى التعليم العالي تتبع فيه هذه الأساليب المستبدة و التلقينية و التي تشجع على الاتكالية و السلبية و عدم قدرة الطلاب على الفهم و التحليل و النبوغ ، ابتداء من الهيئة التدريسية المتعسفة و انتهاء بالمناهج المترجمة حرفيا مرورا بأسئلة الامتحان المكررة. كما استعرض الكاتب رصدا عيانا مهما لواقع التسلط التربوي في بعض البلدان العربية ( سورية و مصر و تونس و الكويت ) و كانت النتائج متشابهة من حيث التسلط التربوي و المخاطر التي برزت منها على شخصية الفرد كالخنوع والجبن و السلبية و الأنانية و التسرب و عدم القدرة على التمييز بين الخطأ و الصواب …الخ من الأمراض التي تصيب النفس البشرية فتسلها عن التميز و الإبداع .
التسلط و التسامح في مرآة الأبحاث التربوية و الأنثروبولوجية
في العقود الأخيرة من القرن العشرين ظهرت دراسات عديدة تعالج القضايا الأنثروبولوجية ، للوصول إلى المبادئ الأساسية للتربية المثلى بعيدا عن الإنحراف و العنف .و هنا يوضح لنا الكاتب أهم الإنجازات التي حققها الغرب في دراسة القبائل البدائية ، فأطفال الموندوغومور عندما يصبحون راشدين ، يتميزون بالقلق و التوتر ، و بالشدة و الصرامة و قسوة القلب . بينما الراشدون من قبيلة الآرابيش ، متميزون بثقتهم بأنفسهم ويتصفون بالرقة و الوداعة و الطيبة و الصدق و التفاؤل . و قد درست الباحثة الأنثروبولوجية الأمريكية مارغريت ميد هاتين القبيلتين ، و رأت أن الطفل في الآرابيش يعامل برقة ووداعة متناهية جدا ، و يحظى باهتمام فائق من الأبوين ، فالأم ترضع الطفل في كل لحظة يعلن فيها عن حاجته ، و يوضع قريبا من ثدي الأم ، و لا يعنف عندما يخرج فضلاته ، ولا يفطم مبكرا ز بينما الطفل في قبيلة الموندوغومور ، يربى على مبدأ العدوانية ، فيتم فطامه فجأة ،و لا يسمح له بالرضاع من ثدي الأم إلا لفترة قصيرة جدا ، و لا يسمح له بتحريك يديه أثناء الرضاعة ، و يبعد بسرعة إلى السلة الخشبية التي يوضع فيها . و بالتالي فإن أسلوب التربية المتبع في هاتين القبيلتين هو ما يحدد سلوك الراشدين .
و يستعرض الكاتب أيضا نتائج الدراسات الحديثة حول أطفال الأسر المتسلطة و المتسامحة فيقول : "إن الأطفال الذين يعيشون في أوساط متصلبة تربويا يعانون المشكلات التالية :-
يعانون من الخجل و الخوف في علاقاتهم مع الآخرين .
يحاولون إرضاء معلميهم .
علاقاتهم مع زملائهم لا غنى فيها ومشحونة بالخجل و الانطوائية .
أغلب علاقاتهم العاطفية تصاب بالإحباط و الإخفاق .
يشعرون بمزذد من القلق و التوتر بمشاعر الإحساس بالذنب .
مزيد من مشاعر و أحاسيس الشقاء و البؤس و الميل إلى الاتكاء على الآخرين .
مزيد من الإحساس بالتبعية تجاه الوالدين .
و يكمل الدكتور وطفة " إن الأطفال الذين يعيشون في أوساط أسرية تعتمد التنشئة الاجتماعية الديمقراطية يتميزون بالسمات التالية :-
أكثر ذكاء و قدرة على التحصيل .
أكثر قدرة على التكيف الاجتماعي .
أكثر قدرة على الإنجاز .
أكثر قدرة على الانهماك في نشاط عقلي تحت ظروف صعبة .
أكثر اعتمادا على النفس و ميلا إلى الاستقلال.
أكثر اتصافا بالود و أقل عدوانية .
أكثر تلقائية و أصالة و ابتكارا .)
كما بين الكاتب ، أن المتخصصين في مجال التربية لم يستطيعوا أن يضعوا الحدود التي يجب على الأسر الديمقراطية إدراكها لكي لا يقعوا في فخ التدليل و الإهمال ، فالمسامحة موقف عقلي و إيجابي ، بينما الإهمال موقف عاطفي و سلبي .
و هنا ندرك أن التربية ليست سهلة على الإطلاق ، وتتطلب من الأبوين اجتهادا دائما في هذا المضمار من خلال معرفة الطفل و الحوار معه ، و من خلال القراءات التربوية و الأنثروبولوجية، و من خلال الاستفادة من تجارب الآخرين . و لكن للأسف المجتمع العربي غارق في التجلق التربوي، حتى المثقفين منهم غالبا ما يلجؤون إلى الأساليب الجاهزة دون اجتهاد.
الآثار التربوية والنفسية لمجازفات التسلط التربوي
يميز الكاتب في هذا الفصل نوعين من التسلط التربوي، وإن كان لكليهما نتائج سلبية متشابهة:
أساليب القمع النفسي مثل الازدراء والاحتقار والمهانة والسخرية والتهكم والحرمان.
أساليب العقاب البدني والفيزيائي مثل الضرب بكل أشكاله والمنع .
إن الدكتور علي وطفة يرى أننا نعيد تجربة آبائنا وأجدادنا في التسلط فالأب الذي نشأ على القمع والتهديد ، يحاول أن يستبد بأولاده وكما يقول المثل الشعبي (ينضح الإناء بما فيه) ( وفاقد الشيء لا يعطيه ) .
وكذلك تدل الدراسات أن الإنسان الذي يعيش في بيئة موبوءة بالقهر الاجتماعي ، يُشحَنُ بطاقة انفعالية ، تأخذ طابع التسلط في أغلب الأحوال ضد الأطفال والأولاد ، فالموظف المقهور في عمله ، ينفجر في وجه أولاده لأقل هفوة منهم ، وربما أنزل فيهم العقاب .
كما يظهر الكاتب النتائج السلبية للحب التملكي ، هذا الحب الذي يشكل التسلط جوهره ، والأنانية محتواه ، وهو أخطر من التسلط الظاهري ، ويذكر الكاتب بعض الحالات التي عرضها عالم النفس بيير داكو في كتابه الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث حول الحب التملكي ويسميه الكاتب أيضا مستنزف الطاقة .
مفهوم السلطة والتسلط :
يبين الكاتب في هذا الفصل الفرق بين معنى السلطة والتسلط ، ففي اللغة العربية المعجمية يوجد تركيز على جانب التسلط في السلطة كما يتجلى ذلك في قاموس الهادي لحسن سعيد الكرمي حيث جاء فيه: أن السلطة هي القدرة والملك . ويشير الفعل منها إلى التسلط ومنه : تسلط على البلاد والعباد : حكمها وسيطر عليها وتسلط القوي على الضعفاء : تغلّب عليهم وقهرهم . بينمت يجد الكاتب مفهوم السلطة مختلفا في اللغات الأجنبية ، فقاموس لاروس الفرنسي يذكر أن السلطة هي الحق والقدرة على التحكم ، واتخاذ الأوامر . فالسلطة تسعى إلى تنظيم الحياة وضبطها وتوجيهها بينما يسعى التسلط إلى مجرد الهيمنة والسيطرة والإخضاع .
وكذلك يشرح الدكتور وطفة العلاقات بين العنف والتسلط ، بين التسلط والقمع ، وبين التسلط والإرهاب.
رؤى فلسفية في إشكالية السلطة والحرية :
يورد الكاتب المواقف المختلفة للفلاسفة - بدءا من أفلاطون وانتهاء بفرويد - من السلطة التربوية ، فبينما يتشدد الموقف التقليدي إلى درجة التسلط يكون الموقف الليبرالي رافضا لكل أنواع التسلط ، داعيا إلى الحرية الشاملة إلى درجة الفوضى والعبثية . وبين هذين الموقفين يرى الكاتب ضرورة التمسك بالسلطة التربوية ، ولكن بالمعنى الإيجابي لها .
السلطة التربوية : من ضرورة الحضور إلى مجازفات الغياب
يتوقف الكتاب في الفصلين السادس والسابع عند بنية السلطة التربوية وضرورة الانتقال من مجازف التسلط إلى السلطة ثم يشير هذا الفصل (الأخير) إلى بنية السلطة ، حسب ما أورده مختلف المبدعين في مجال السلطة التربوية ، مثل إميل دور كهايم وغوييو وأدلر وجورج ماكو وهيربات ومنتيني ،وعرض أيضاأيضا بنية السلطة للعائلة - الأب ، الأم ، الأجداد ، الأخوة و الأخوات - المدرسة .
فكل من الأب يؤدي دوره الاجتماعي ، و لا يتحقق التوازن التربوي إلا بوجودهما معا ، وكل خلاف أو بعد أو غياب الأب مثلا لظروف العمل - يؤدي إلى الانحلال العائلي وبالتالي إلى انهيار السلطة ، هذه السلطة الضرورية لتحقيق الأمن العاطفي و الانفعالي و الإنساني.
إن الفرق بين تربية الخضوع والتسلط وتربية التساؤل والحرية هو الفرق بين الحاكم الديمقراطي الذي يستمد شرعيته من الشعب فيرعى مصالحه ويطلق إمكاناته ، والحاكم المتسلط أو الطاغية - على حد تعبير مونتسكو - الذي يقطع شجرة ليقطف ثمرة بأكلها منفردا.
تلك هي أهم المفاهيم والنظرات التي توقف عندها الدكتور علي وطفة في كتابه هذا ، وما هذه القراءة إلا دعوة للحوار حول ما جاء فيه .
ويبقى أن نقول أخيرا بأن الكتاب من إصدار مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت لعام 1999 .
الكتاب : بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي
المؤلف : د.علي أسعد وطفة
الناشر : مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 1999