تجليات خاطــــــــــــر ....
بقلم الأستاذ : محمد بن زعبار .
مرافعة المربي أمام قاضي عادل ...
ـ ماذا عساي أقــــــــــول في ذكـــــرى المعلم .
أأشيد بذكراه الغالية ، وأعدد صحائف أعماله الخيـــِّرة لأستعطف القلوب القاسية واستميل النفوس الحانية ، أم تُراني ملزم باتخاذ موقف القاضي دون المحامي لأرى مآل أشخاص المعلمين وكيف صيرتهم أوضاعهم العاتية إلى ما هم عليه من وصب الأيام النابية ، واستجلي ـ فيما استجلي ـ حيثيات مرامي القصة القاضية ودعوى الدعوى الداعية ، لأصل إلى كنه الحقيقة المستجلية .
فذاك ـ فيما أرى ـ مرمانا في تجلياتنا لاستجلاء مكامن الغُصــــــة الجاثيـــــــة .
( بعد أن يقرأ القاضي هذه المقدمة على الحاضرين ، يأخذ مكانه في الجلوس ، يتوسط المنصة ، على جانبيه يجلس مساعدان احدهما على اليمين والأخر على الشمال ) .
بعد ذلك ، يأمر القاضي المساعد الموجود على اليمين .. ليطلب من الحاضرين الوقوف بقولـــــــــــــه : * محكمـــــة * .
ـ القاضي : ( يطلب من الحاضرين الجلوس بإشارة من يده )
بعدها ينادي المساعد الثاني الموجود على الشمال على المربي ، ليمتثل أمام القاضي .
ـ بقوله : على المربي المثول أمام هيئة المحكمة الموقرة .
المعلم : يمتثل أمام القاضي .
القاضي : يطلب من المعلم أن يضع يده على المصحف ويقول : أقسم بالله العظيم أن اقول الحق ...
وتبدأ حيثيات المحاكمة :
المعلم : سيدي الرئيس ، إذن لي بهذه المرافعة ، ومن خلالها أُبين لمعاليكم عظم ما نكابد وجسامة ما نعاني :
القاضي : لك ذلك
المعلم : لي تسأول مقلق قبل البدء في المرافعة .
القاضي : قله ، فقد أمَّنت جانبك .
المعلم : من أوصلك ـ سيدي الرئيس ـ إلى ما أنت عليه ؟ ، وبالضرورة من أوصل جمهرة المتعلمين إلى مناصبهم ومكاناتهم الاجتماعية المرموقة ؟ .
القاضي : لاشك أنه أنت .
المعلم : الحمد لله أني وجدت من يقر بفضلي ، و يعترف بجميلي .
القاضي : الناكر للجميل شيطان ، وليس خليقا بالآدمية .
المعلم : أدام الله عزك ـ سيدي الرئيس ـ ، ولا بأس أن أبدأ في مرافعتي الآن، وكلي ثقة .
ـ إن واقع التعليم في بلدي أمسى كارثيا ، وأمست حال المربي فيه أشبه بالأحجية العجيبة ، التي عجز الناس عن فك طلاسمها وإبطال مفعول سحرها ، فقد أحال واقع التربيةِ ـ التربية ـ إلى مهنة يتساوي في أداء مهامها ، موظفون قد يُلحقون جزافا بأي تركيب وظيفي ، فمهنة التعليم أصبحت عندهم كالاسكافي مثلا أو الحداد أو حتى عامل النظافة ، و لربما نجد تفضيلا للكثير الكثير من المهن التي لاترقى إلى مستوى القدسية والنبل مثل مايحضى به التعليم ، ولكنها وعند أصحابنا ، يلقى أصحابها نُبلا مصطنعا ومنزلـــــــــــة مُعدة على المقاس ، فقد مسنا الضر ـ سيدي الرئيس ـ ولحِقتنا جهالات و سفاهات و لعنات ووخزات و عثرات وايماءات العامة والخاصة من شرائح مجتمعنا الممتد ـ واصبحنا مدعاة لكل تحقير ، بنا يتسلى الكبير والصغير ، المرأة والرجل ، العجوز والشيخ .. إن وجدوا نكتة جديدة الصقوها جزافا بشخص المربي ، وقالوا بنبرة المتهكم : هل سمعتم أخر نِكات المعلمين ؟
بفضلنا شيدت الحضارات وبمراسنا العالي وصلت الأفاق وجاوزت الأطباق ، ولكننا وفي حضرة من لا يقر بالفضل ولا يعترف بالجميل ، أمسينا كما العرجون القديم ، وليستسمحني ـ سيدي الرئيس ـ في أن أوجــــــز له خلاصة هذه المكابدات ، وليعذرني سلفا على الإطالة ، إن لمس مني بعض الإطالة .
القاضي : لك ذلك ، والتماسك مقبول .
واصل مرافعتك .
المعلم : ( يواصل المرافعة ).
ـ أرادوا تحديث القطاع وبعث الديناميكية والحركية والعصرنة بين جنباته ، وكان ذلك غاية مُنانا ومبلغ رجانا ، ولكنهم أهملوا مع التحديث روح التحديث ، فغدا التحديث باليا ، لعل القديم أجدَّ منه ، ولكنهم وحتى يوهموا كل الناس بأنهم على المسار الصحيح ، عمدوا إلى الفبركة وإلى تقمص دور المريد ، فأنشاوا خلايا للتصحيح والإصلاح و إصلاح الإصلاح وتغيير التغيير ، ولا يسلم في ذلك كل هذا الاصلاح من وتيرة الإصلاح .
، ـ أرادوا تشبيب القطاع وتطعيمه بالجيل الجديد المتخرج من الجامعات ، وهو صنيع محمود ، ولكنهم لم يؤلوا أبناءهم نفس الاهتمام والرعاية ، فالمتخرج الملتحق بالقطاعات الأخرى له من العلاوات و الحوافز الكثير ، ناهيك عن الفارق في الأجر ، الذي يرفع من قيمة ذاك ، ويُحِــــــط من قيمة هذا .
ـ جعلوا من شخص المعلم محــــــط تشريعاتهم وقوانينهم الجائرة ، الباعثة على الزجـــــر ، فكل المراســــيم تُتبع بتهديـــدات ، وكأننا لسنا أهــــــــلا للقول الحسن ، رغـــم أننا صانعو القول الحســــــن ، ( تعليمات . تسخيرات ، قرارات .... ) كل من خالف القوانين والمراسيم يتعرض لــ ....
ـ أعيانا تبدل المناهج و أضنانا عدم الاستقرار التربوي ، أصبحنا مختبر فئران أو ضفادع ، تُجرى التجارب علينا وعلى التلاميذ ليروا مدى نجاعتها ، فإن لم تنجح التجربة استبدلوها بأخرى ، ولم يدركوا بأنهم يتعاملون مع بشر وليس فئران .
ـ ضجـــِر الناس جميعا من هكذا برامج ومقررات وتقنينات ، فرمونا باللعنة ، وانزلوا علينا وبال غضبهم ، وكأننا نحن أصحاب التقريرات والتقعيدات وو...
ـ ملَّ التلاميذ من تحديثات البرامج ، وأضناهم الإرهاق .
ـ أرادوا توحيد الزي المدرسي فزادوه تفريقا وتشتيتا ، أرادوه أزرقا للصف المتوسط والابتدائي ، ولم يُعدوا لذلك عدتهم من التدبير ، أوكلوا الأمر إلى سماسرة السوق ، فزاد الطين بلة ، وزاد الأولياء هَـــمَّ .
ـ وماذا أقول عن المناهج والمقررات ، فرغم أنها كثيرة ومُلمة غير أنها تكاد تكون جافة وغير وظيفية ، ومرهقة لعقول الصغار والكبار في أن معا .
ـ في الماضي كان التعليم بسيطا ولكنه جد مفيد.
ـ ذموا المدرسة الأساسية ، ونعتوا أصحابها بأشباه المتعلمين ، رغم أنها خَرَّجت الكوادر العليا للوطن .
ـ كَـــثُرت الأخطاء في مناهج التعليم وفي الامتحانات الرسمية ، وكثــــُر اللغط ، وتم بتر أساسات التقويم والتأصيل الواعد .
ـ صارت المسابقات والتوظيفات شكلية وعلى مقاس " تدفع كم " ، وكأننا في سوق ماشية ، ولذا انتفت قدسية المهنة ، وصارت مهنة كسائر المهن يحكمها قانون العرض والطلب .
ـ كثر العنصر النسوي في قطاعنا، وكَثـــــُرت معه تبريرات الغياب ( عطل مرضية ، أمومة .... ) ، وضاع التلاميذ في خضم الغياب .
ـ استأسد التلاميذ في بعض المؤسسات ، ونكـَّـــلوا بأساتذتهم في غياب الرقيب والمُدافع عن المربي المغبون ، المزجور بقانون " منع الضرب " .
ـ صار بعض الأولياء للمربين أعداء ، يترصدون أخطاءهم ، ويتحينون الفرص السانحة للانقضاء عليهم .
ـ تم مثول الكثير من المربين أمام القضاء ، لا لجريرة ارتكبوها سوى الخوف على مستقبل الأبناء التلاميذ والإشفاق على حالهم ، ومن ثم تأديبهم ببعض التأديب الخفيف ، ونسوا بأن عصا المعلم فيها بركة ، وقد قال الأقدمون " عصا الشيخ من الجنة " .
ـ تم توقيف الكثير منا لدعاوى الشبهة والدسيسة والمكر والافتراء الكاذب .
ـ ألَّــــبوا الشارع علينا فأزدرانا الكل ورمونا بالسخف والتسفيه والتحقير ، وكالونا ألوانا من النِكات المُفجعة
ـ عمدوا إلى إظهارنا بمظهر الجشـِـــع الذي لا يشبع ، رغم أننا لم نأخذ من ركاز البلاد إلا الفتات .
ـ أصبح التعليم مُُسَـــيسا تنتزعه الأهواء ، وتحكمه الأنواء .
ـ أرادوا تكميم أفواهنا وتحطيم أقلامنا ، وزجـــِـنا في خانة العُصاة المتمردين ، لتبقى لهم المَنعة ، ويعمدوا بعدها إلى القول : بأننا مارقون ، وجاز لهم أن يضربوا المارق بيد من حديد ، ليحفظوا ماء الوجه لقطاع أمسى قِطـَّـــــاعا .
ـ خبـِــــروا وضعنا بأننا ضِعاف الجانب ، لا نقوى على صد العُتاة المعتدين ، فزادهم تيها وفخرا ، وأيقنوا أنهم لا يقدرون على غيرنا ممن خاض في الفساد ذات اليمين وذات الشمال ، فاستأسدوا وتنمروا علينا ، وأنزلوا بنا زجرهم المُعلَن ، الدال على الرهبــــة والعُتــُـــو .
وليعذرني ـ سيدي الرئيس ـ على الإطالة ، لأن صدري مثقل بالأرزاء ، ولكم مني الإجلال على رحابة الصدر .
القاضي : ما كان لك أن تحزن وأنت فخـــــرُنا ، فسنقضي بما يُثلج صدرك ويرفع عنك الهَم ، ويُلحقك بمصاف الأخيار .
القاضي : يُرجئ الحكم بعد المداولة .
المساعد : الحكم بعد المداولة ...
القاضي : ( يصدر الحكم )
ـ بسم الشعب ، وبعد النظر في حيثيات القضية ، وبعد الاستماع إلى مرافعة الشاكي ، وبعد التأكد من دعاواه ، أصدرنا حكمنا المنطوق الذي لا يقبل النقض ، وهذا نصه :
ـ ألزمنا الأطراف المتسببة في إلحاق الأذى المادي والمعنوي بشخص " المربي " بإعادة الاعتبار له وإنصافه ، وتمكينه من حقوقه الظاهرة منها والمستتِرة ، وقضينا في حكمنا بأن تُحفظ كرامة " مربينا الأول " ، ويُحاط جانبه بالتكريم والتبجيل متى لزم ذلك ، وأن تــُفرد له من العلاوات والحوافز ما يحفظ له ماء الوجه ، ويرفعه عن غبن الحاجة ومـــذَّلة السؤال ، وله أن يُكـَـــيَّفَ مناهجه ومقرراته بما يتوافق والسير التربوي الجيد ، ولا بأس بعصا الشيخ " فهي من الجنة " . وقد رفعنا عنه المراسيم الكثيرة الزاجرة ، ويكفينا فخرا أن يكون مرتاحا .
و حـَـــمَّلنا جميع الأطراف المُناوئة له وِزر ما صنعت ، وألزمناها العقوبة على مقترفها الجبان ، وله في جزائره أن يشعـــــــر بالفخر ويضع الصولجان .
ـ وحتى نكون في مستوى العرف التربوي الراقي لابأس بهذه المداخلة الفنية الراقية ، فتقبلوها منا ـ ياأهل التربية ـ
بعد الأنشودة المُعبرة يقف القاضي مع المُساعدين وكذا المربي ، ليُقدموا التحية للجمهور على لسان المعلم الذي يقول : وفي الأخير لا يسعنا إلا أن نرفع كل التحية لمعلمينا الأعزاء ن ونشهد أنهم ورثة الأنبياء .. فمن علمني حرفا صرت له عبدا .
السلام عليكم جميعا .
( انتهى )
ـ نشكر قاضينا على رحابة صدره وعلى سمته العالي ، وعلى إنصافه لشخص مربينا .
ـ هو خاطر وكم نتمنى أن يصير حكم القاضي فيه بعض الحقيقة .