تشتق الكلمة في معناها اللغوي من مادة (نهز) التي تعني اغتنم والانتهاز هو المبادرة، ويقال انتهز الفرصة أي اغتنمها وبادر اليها، وهي في معناها الاصطلاحي أو السياسي لا تختلف كثيراً عن المعنى اللغوي المشار إليه فالإنسان العاقل هو الذي يغتنم الفرص ويستثمرها من أجل أهداف معينة تختلف باختلاف منطلقاتها فقد تكون محدودة ضيقة الأفق لا تخرج عن إطار المنفعة الذاتية القصيرة الأمد أو اهدافاً سامية ومثلاً عليا يكافح الإنسان في سبيل تحقيقها ويضحي بالغالي والنفيس على مذبحها وعند ذلك يصبح استغلال مثل هذه الفرص المتاحة عملاً مشروعاً بل واجباً
شرعياً قد يحاسب الإنسان على التفريط بها وتفويتها، يقول الإمام علي(ع) (اغتنموا الفرص فإنها تمر مر السحاب) ولا نظن أنه(ع) قد أشار إلى الفرص التي تعود بالنفع الرخيص والمصلحة الآنية على حساب المصالح العليا.
وقد يتبادر إلى الذهن بأن الحث على اغتنام الفرص من أجل تحقيق الأهداف السامية يتطابق ونظرية ميكافيلي (الغاية تبرر الوسيلة) التي اسهب في شرحها وارساء قواعدها في كتابه (الأمير). ولعل الفرق سيبدوا واضحاً جداً بين الفكرتين إذا عرفنا أن اغتنام الفرص المتاحة ليس خلقاً لها بأساليب شيطانية ملتوية قد تكون بعيدة كل البعد عن المبادئ والقيم التي يراد لها أن تكون هدفاً ووسيلة يرغب إليها المجتمع والفرد نظرية وتطبيقاً. يقول الله عز وجل: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم(.
وتستثنى كذلك حالات العسر والحرج والاضطرار التي تباح عندها بعض المحظورات أو المحرمات فهي من الموارد التي شرعها الشارع المقدس لحالات خاصة وظروف استثنائية لا تمت إلى الموضوع الذي نحن بصدده بصلة.
وخلاصة الفكرة أن القيمة في الإسلام في جانبيها السلبي أو الإيجابي ليست مطلقة بل هي نسبية أمام المفاسد أو المصالح الملزمة الواقعة في مستوى الأهمية فلابد من العمل بالقيمة إذا لم تزاحمها حالة أخرى تتقدم على مضمونها في الأهمية فإذا حدثت الحالة كانت القيمة في دائرة المضمون العملي للقيمة الأخرى، فالحرام إنما حرّمه الله لما فيه من مفسدة للإنسان، وإذا احرزنا في الحرام مصلحة ملزمة للإنسان فحينئذٍ يتجمد الحرام ويصير واجباً.
من كل ما تقدم نكون قد احرزنا أن انتهاز الفرص ليس مذموماً بمجموعه أي جملة وتفصيلاً بل لابد من التمييز الدقيق بين الحالتين الآنفتي الذكر والذي يهمنا في هذا البحث هو الانتهازية بمفهومها السلبي في الظاهر والمضمون والذي اصبح داءً عضالاً تعاني منه الأمم والحضارات وادى إلى انهيارها في الماضي ولا زالت تقاسي الحضارات والمجتمعات من هذا المرض الاجتماعي الذي يسري بين جميع شرائح المجتمع سريان النار في الهشيم ويتحول المجتمع تحت تأثيره إلى مجاميع من الانتهازيين النفعيين الذين يفرطون بكل شيء من أجل تحقيق مآربهم الخاصة ومنافعهم التافهة ويعطونها الاولوية على كل ما يمس القيم والمبادئ، ونتيجة لذلك تتغير مفاهيمها ومدلولاتها بنقائضها كافراز طبيعي لممارسات هؤلاء فيصبح الحق باطلاً والشرف وضاعة.. وهلم جرا.
بين النفاق والانتهازية
لم يستعمل القرآن الكريم لفظة الانتهاز باي شكل من اشكالها ولكن تطرق إلى المنافقين وشرح احوالهم بالتفصيل في سورتي البقرة والمنافقون وأشار إلى صفاتهم وسلوكياتهم في كثير من الآيات القرآنية الأخرى ولسنا الآن بصدد استعراض جميع تلك الآيات وسنحيلها إلى فرصة أخرى. ولا يخفى أن الانتهازية هي نوع من أنواع النفاق إلا أنه يختلف في أن الانتهازي لا يضمر من وراء تظاهره بالصلاح أو التملق إلا مصلحته الذاتية في النفع المادي القريب أو الترقي في المناصب الدنيوية لإشباع طموحه أو الحفاظ على مكاسبه المشروعه أو امتيازاته غير المشروعه والابقاء عليها باتباعه اساليباً تتلون بألوانها وتتفصل على مقاساتها. بينما يخفي المنافق في نفاقه الواناً من التآمر والأفكار المنحرفة في منهجية مدروسة ويتغلغل بين صفوف المبدئيين والمخلصين مظهراً ولائه وايمانه متحيناً للفرص من اجل القضاء على الرسالة وقيمها ومبادئها وكيانها القائم.
وبعبارة أوضح فإن المنافق يسير وفق خطة مرسومة سلفاً وقد وضعت جميع برامجها التفصيلية وتناولت دقائق الأمور في محاولة من أجل القضاء على اصل المبدأ والعقيدة وتتفق وواقع الحالة السياسية أو الاجتماعية التي ستبرز من خلالها وقد يلتقي الانتهازي معها في نقاط معينة أو يتقاطع أو يتحرك بموازاتها متطابقاً معها في الخطوط العريضة مداً وجزراً وفق ما يتطلبه الظرف وتمليه الحاجات.
لقد صنف القرآن الكريم الناس بصورة عامة إلى صنفين لا ثالث لهما.
1ـ الذين ليس لهم نصيب في الآخرة وهم أهل الدنيا من الكفار والمنافقين.
2ـ الذين يبتغون الدار الآخرة وقد وضعوها نصب اعينهم وهم المؤمنون.
فمن خلال هذا التصنيف الإجمالي يدخل الانتهازيون باعتبارهم إحدى فئات المجتمع ضمن الصنف الأول وتفريعاته الكثيرة والمتشعبة ودرجاته من الشدة والضعف، بينما يقسم الإمام علي(ع) الناس على خمسة أصناف أربعة منها تفريعات لأهل الدنيا وفئة مؤمنة قد اخلصت نيتها ومواقفها للعقيدة والمبدأ. فيقول: أيها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود وزمن شديد (كنود) يعد فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عتواً لا ننتفع بما علمنا ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا فالناس على أربعة أصناف (ويقصد بهم أهل الدنيا).
1ـ منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلالة جده ونضيض وفره.
2ـ ومنهم المصلت بسيفه والمعلن بشره والمجلب بخيله ورجله قد اشرط نفسه واوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً ومما لك عند الله عوضاً.
3ـ ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن بشخصه وقارب من خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف من نفسه للامانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية.
4ـ ومنهم من اقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، وانقطاع سببه فقصرته الحال على حاله فتحلى باسم القناعة وتزين بلباس أهل الزهادة وليس من ذلك في مراح ولا مغدى.
5ـ وبقي رجال غض ابصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد ناد وخائف مقموع، وساكت مكعوم، وداع مخلص، وثكلان موجع، قد اخملتهم التقية وشملتهم الذلّة، فهم في بحر أجاج، أفواههم ضامزة، وقلوبهم قرحة قد وعظوا حتى ملّوا، وقهروا حتى ذلّوا، وقتلوا حتى قلّوا... الخ)(2).
فكما هو واضح من سياق كلام الإمام(ع) فإن التقسيم الذي اعتمده لا يخرج عن التقسيم الذي يعتمده القرآن الكريم فالناس إما أهل المصالح والمنافع الآنية وهم الذين رتبهم الإمام(ع) في الاصناف الأربعة الأولى وكلها تدخل ضمن دائرة واحدة ومفهوم محدد يرسم ابعاد النفاق بشتى صوره فالفئة الأولى هم العاجزون ذاتياً عن طلب الدنيا للأسباب التي أشار إليها الإمام من كلالة الحد ونضيض الوفر ومهانة النفوس فليس لديهم حيلة على منالها والفئة الثانية التي صنفت ضمن أصناف المنافقين هم الانتهازيين الذين يبيعون آخرتهم ويوبقون دينهم لحطام ينتهزونه وقد دخلوا تجارة خسروا فيها أنفسهم فعبر الإمام عن بؤسهم (ولبئس المتجرأن ترى الدنيا لنفسك ثمناً ومما لك عند الله عوضا).
أما الفئتان الثالثة والرابعة فهم المراؤون والمتقاعسون يلهثون وراء الدنيا باساليبهم الخاصة أو تقعد بهم همتهم الواهنة فيتلبسون بلباس أهل الزهادة. وفي مقابلهم رجال المبادئ والعقيدة الراسخة يرفضون الباطل بكل وجودهم ويصرون على الحق ولو كانت فيها نفوسهم فأشار الإمام إليهم بقوله (قد وعظوا حتى ملّوا وقتلوا حتىّ قلّوا).
لذا لم تكن الانتهازية مفهوماً جديداً يستخدمه المثقفون والسياسيون في مصطلحات القاموس السياسي الحديث بل كان اسلوباً متبعاً منذ أن قامت البشرية وقد عالجها الإسلام كحالة مرضية تنتشر في اوساط المجتمع وإن لم يستعمل القرآن الكريم هذه اللفظة بصراحتها كما يستعملها القاموس السياسي في الحياة السياسية المعاصرة ولم تبتعد استعمالاتها في السابق عما هي في الوقت الحاضر. وقد استعملها الإمام علي(ع) بمعناها المتعارف في الخطبة التي نقلنا جزءاً منها آنفاً.
لذلك بات ضرورياً أن نستعرض صفات الانتهازيين وبعضاً من سلوكياتهم حتى تعم الفائدة.
نماذج من سلوكيات الانتهازيين
مارس الانتهازيون ادواراً خطيرة على طول التاريخ البشري وكانت لهم سلوكيات أقل ما يقال عنها أنها تثير الاشمئزاز فلم يكن لهم لون واحد ولا استمروا على وتيرة واحدة وهذا هو ديدنهم دائماً وفي سيرة شبث بن ربعي على مدى تاريخه الحافل بالانتهازية والوصولية واستغلال الفرص ابشع استغلال. ينقل الإمام الشيرازي حفظه الله خلاصة عن سير حياته في كتابه (من قصص التاريخ) هكذا (كان شبث بن ربعي من المنافقين الذين ينعقون مع كل ناعق ولم يكن على وتيرة واحدة، كان في مطلع حياته مؤذناً لسجاح (التي ادعت النبوة زمن رسول الله) ثم اسلم وشارك في قتل عثمان (منتهزاً فرصة الثورة الشعبية ليأخذ دوره مع المنتصرين بعد أن تأكد من انتصار الثورةوان عثمان مقتول لا محالة). وكان في عسكر الإمام علي(ع) وكان قد أرسله مع عدي بن عدي بن حاتم إلى معاوية يدعوه إلى الطاعة. (ولما رأى ضعف عسكر الإمام بعد صفين) ثم التحق بالخوارج. وكان قد كتب إلى الإمام الحسين(ع) يدعوه وفي كربلاء انضم إلى عسكر عمر بن سعد وفي زمان المختار كان من المطالبين بدم الإمام الحسين(ع)، واصبح رئيس شرطة الكوفة وكان من بين قتلة المختار)(3).
إن السلوك المنحرف يشذ عن السلوك القويم لأن: (مما لا جدال فيه أن عدم إشباع حاجات الفرد الغريزية يؤدي إلى تعطيل عناصر التفكير في جسم الإنسان بشكل أو بآخر، مما يجعل ذلك الإنسان قليل الاكتراث برايه، متلهفاً لاول قطعة رغيف تصل يده)(4).
فالحاجة أو الحاجات الغريزية عندما تجوع تبعث على هذا النوع من السلوك الالتوائي الغريب من نوعه عند الإنسان السليم في تفكيره ومنطقه وهو السلوك الذي كان يمارسه شبث بن ربعي طيلة حياته.
سلوك الانتهازي إنما هو انعكاس طبيعي لما يختلج في نفسه من حب الذات والمصالح الشخصية ولكنها لا تشكل العامل الوحيد الذي تنشأ منه كل تلك الانحرافات وقد ترجع في بعضها إلى عدم تأصل المبادئ في عقيدته ذلك لأن العقائد فيما لو تأصلت في ضمير الإنسان فإنها تستطيع أن تهذب الكثير من سلوكيات الإنسان وترسم له طريقة تعامله مع كل ما يجري حوله وسيقيم وفقاً لمعطياتها علاقته مع المجتمع والأسرة والافراد.
كان النبي( قد ارسل أبا سفيان ساعياً، فقدم بعد وفاته(، فاجلب عليهم، فقال عمر لأبي بكر (إن أبا سفيان قد قدم، وإنا لا نأمن شره فدع له ما في يده فتركه.. فرضي)(5).
لم يكن أبو سفيان ليرضى بحفنة من المال إن بلغ مداها ما بلغ فيما لو كانت تصرفاته وسلوكياته تستند إلى اصالة المعتقد لديه.
كما أنه حينما كان أبو سفيان في اوج غضبه وثورته عليهم (على أبو بكر وعمر) أخبروه: بأن أبا بكر قد ولى ابنه، فانقلب في الحال رأساً على عقب، وقال (وصلته رحم)(6).
لا يمكن أن نصنف طلب الملك جزءاً من حاجيات الإنسان في الحياة ولو أن النفس البشرية تكون عادة تواقة إلى ترقي المناصب والصعود ولكن عندما تصطدم هذه مع العقيدة يتنازل الإنسان عنها لصالح عقيدته وثورة أبي سفيان وهيجانه لم يكونا إلا من اجل الحصول على المجد الموهوم والملك العضوض وهذا هو دأب الانتهازيين يهدأون لبرهة عندما يحصلون على ما يريدون كما تذكر الرواية. فالانتهازية رأي لا أصالة له ولا يرتكز على ارض صلبة وإنما يتحول ويتبدل ويدور مع الريح أينما دارت ولا يقر له قرار.
(وهو الرأي الذي لا جذور له ولا أصالة... يبحث عن ذاته فلا يجدها فيتعلق باذيال الآخرين ويحاول أن يتلبس باصالة فلا يجد نفسه إلا وهو عاري الجسد حافي القدمين..)(7).
ولما لم يكن للعقيدة دور يذكر في تحديد سلوك الانتهازيين فانهم يلجئون إلى خلق ثقافة تبريرية في اوساط المجتمع ويروجون لها ليتسنى لهم تبرير سلوكياتهم في الانتهازية والوصولية.
فهذا عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة الانتهازيان من الطراز الأول اتهموا أمير المؤمنين علي(ع) بأنه أراد قتل النبي، وانه سمّ أبا بكر، وشارك في قتل عمر وقتل عثمان)(
.
وإليك الحجاج مثالاً آخراً للانتهازيين فقد دعاه الوليد ليشرب معه النبيذ فقال له (يا أمير المؤمنين، الحلال ما حللت)(9).
وأصرح من هؤلاء في انتهازيته أبو موسى الاشعري الذي كان يصلي مع علي(ع) ويأكل مع معاوية وحين يشتد القتال يقف على التل ويقول (الصلاة مع علي اتم والطعام مع معاوية أدسم والوقوف على التل اسلم).
ويذكر التاريخ أن يزيد بن عبد الملك أراد أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز فشهد له أربعون شيخاً (انتهازيا) أن ليس على الخليفة حساب ولا عذاب)(10).
وعندما تستشري الانتهازية وتصبح لوناً من ألوان ثقافة المجتمع فسوف لا يستهجنون من سلوكياتها شيئاً وستعطيك ليس افراداً انتهازيين بل جيشاً منهم لا يفرق احدهم بين الناقة والجمل، يقول صــاحب مروج الذهب (أن أهل الشـــام يقبلون من معــــاوية أن يصلي بهم ـ حين مسيرهم إلى صفين ـ صلاة الجمعة في يوم الأربعاء)(11).
فالانتهازيون في النهاية يتحولون إلى إمعات عقولهم معطلة والسنتهم تنعق مع كل ناعق لا يختلفون عن الدواب التي همها علفها واشباع غرائزها الآنية بلا رأي ولا فكر ولا سلوك قويم يدورون دائماً حول مصالحهم لا يرون عنها بديلا.
يقول رسول الله(لا تكونوا امعة: تقولون إن أحسن الناس أحسنا إن اساءوا أسأنا ولكن وطنوا أنفسكم.. إن احسنوا إن اساءوا ألا تظلموا).
وللانتهازيين في حياة رسول الله قصص كثيرة لا يسع المجال لاستيعابها في هذا البحث المختصر ولسنا بصدد ذكرها إلا إننا نود الإشارة هنا إلى أن جميع الرسل والأنبياء قد ابتلوا بهذا النوع من الناس ذلك لانهم موجودون في كل زمان ومكان يمثلون الخطوط المائلة التي تسعى إلى الوصول إلى اهدافها قاطعة الخط المستقيم الذي يبشر به الأنبياء (وهذا صراط ربك مستقيماً) الأنعام، 126، لا اعوجاج فيه ولا التواء وتنفذ إليه وتكون عادة لصيقة بمركز الاشعاع والهداية كما كان يهودا للمسيح والسامري لموسى وأبو سفيان لرسول الله(. فهم لم يستقيموا كما أمر الله وإنما يظهرون غير ما في قلوبهم المريضة وليس فيها إلا الغدر والخداع والمصلحة الرخيصة فهم إنما يؤخرون المواجهة مع التيار الجديد لظروف خاصة تتعلق بالخوف من التفاف العقائديين حول القيادة واستعدادهم للتضحية والفداء وهو ما يصطلح عليه اليوم بقوة التيار وثانياً التسديد الإلهي الذي يمنحه الله لانبيائه بفضح المنافقين ومخططاتهم الجهنمية (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) 64، التوبة، فهم مجبورون على مسايرة الوضع القائم مع ما تحتويه قلوبهم من الحقد والضغينة أحيانا والمنافع الخاصة دائماً. يتحينون الفرص للوقيعة بالمؤمنين أو للحصول على الامتيازات بأسهل الطرق لانهم ليس لديهم أي استعداد للتضحية ولذلك نجد أن للانتهازية انعكاسات خطيرة على المجتمع في الظروف الحرجة التي تمر بها وموقفهم يوم الخندق له دلالة على مدى خطورة هذه الظاهرة ومضاعفاتها على المجتمع وقولهم (كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط).
فهذا هو هاجسهم وعلى ضوئه كانوا يتحركون أو ينظّمون إلى هذه الفئة أو تلك، لذلك كانت الانتهازية ظاهرة إنسانية خطيرة تطفح بشكل عنيف في النفوس الشريرة وتظهر على السطح في الظروف العصيبة ولها عواقبها وانعكاساتها السيئة على المجتمع كسائر الظواهر السلبية والآفات الاجتماعية الأخرى لأن الانتهازي ليس لا ينتمي للأمة فحسب بل يحطم صمودها ويجعلها في بلبلة شديدة ويفقدها قدرة التمييز بين الحقيقة والزيف بحيث تضيع عليها المقاييس والمعايير فتتمزق من الداخل وتصبح كالاشلاء تنهشها الغربان.
ولما كانت الأمة هي مجموعة من الناس تشترك في العقيدة والمبادئ ولها أهداف واحدة في الحياة فلا مكان للنفعيين والانتهازيين في هذا التعريف وعليه سيكونون دائماً هدفاً سهلاً للاعداء ويشكلون طابوراً خامساً في داخل المجتمع ولكنهم ممن يتلبسون بلباس الأمة ويظهرون بمظهرها من الخارج فقط وقلوبهم خواء وإذ لا يحول بينهم وبين الانحراف والوقوع في المهالك مبدأ ولا عقيدة فسيكونون عرضة للانزلاق السريع وهذه علامة أخرى علىخطورة الانتهازية وطريقة تفكيرها على ركائز المجتمع.
ومن ثقافة الانتهازيين والوصوليين كيل الاتهامات جزافاً وتشويه سمعة المخلصين من أصحاب المبادئ من اجل خلق أجواء معتمة وغائمة وتعكير المياه ليتسنى لهم التصيد فيها بسهولة ودون أن تنكشف نواياهم الشريرة. قال عمر بن عثمان بن عفان للإمام الحسن(ع) (ما سمعت كاليوم، أن بقي من بني عبد المطلب على وجه الأرض من أحد بعد قتل الخليفة عثمان.. إلى أن قال: فيا ذلاه أن يكون حسن وسائر بني عبد المطلب قتلة عثمان، أحياء يمشون على مناكب الأرض)(12).
سمات الانتهازيين
مما تقدم تبين لنا أن اهم صفة يفتقر إليها الانتهازيون هو الصدق بمفهومه الأعم الذي يشمل الصدق مع النفس ومع المجتمع والصدق في العلاقة مع الله. فالحياة التي قامت بالحق والصدق في كل ذرات الوجود لم تكذب يوماً منذ أن خلقها الله عز وجل والى يومنا هذا وحتى تقوم الساعة فهي صادقة في صيفها الحار وشتائها البارد وليلها المظلم ونهارها المضيء وما خلق الله شيئاً في هذا الكون الواسع إلا ويشهد على الصدق في التعاطي مع سائر جزئيات الوجود الأخرى، بينما تجد الكذب قد استشرى في وجود الانتهازي فاحاطه وتغلغل في كل خلاياه لا يجد منه مهرباً فاصبح جزءاً من ذاته لا تعرفه بغيره ولما كان الكذب رأس كل الخطايا فإن سائر الصفات السلبية الأخرى التي سنتطرق إليها ستكون نتاجاً طبيعياً لصفة الكذب التي استولت على كيان جميع الانتهازيين والوصوليين.
يقول الإمام علي(ع) (إن الوفاء توأم الصدق، ولا اعلم جنة اوقى منه ولا يغدر من علم كيف المرجع ولقد اصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة ما لهم قاتلهم الله قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)(13).
فالصدق جنة واقية من العذاب ذلك لان حركة الصادق تتطابق مع كل معاني الخير وتتناغم وحركة الكون في كل ذرة من ذراته وكل جرم من اجرامه السماوية ومع حركة الشمس ودوران الأرض متموسقاً معها في سمفونية رائعة اودعها الباري عز وجل في نسمات الصباح وانفاس الطيور وبُسوق الأشجار وجريان الأنهار لذلك يصبح الكذب لحناً نشازاً يشوه الحياة وصدقها وقرعاً بطبول على ايقاع شاذ تصطك منه الاسماع ولا يسع الإنسان إلا أن يصم اذنيه من ضجيجها لأنه خلاف حركة الوجود والكون والحياة ونظامه القائم على الحق في كل ذرة فيه يقول الله عز وجل (والقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل شيء موزون) 19، سورة الحجر.
فالصدق قيمة أخلاقية عليا تبني عليها الحضارات بنيانها والمجتمعات أسسها وبغيره سيصبح البناء بلا قواعد ينهار عند أول هزة وأضعف ريح تعصف به ذلك لأن للصدق اصالة الحياة ووسيلتها وغاية وجودها. والوفاء بالعهد لون من الصدق بل توأم له كما أشار الإمام علي(ع) لا يتوفر عند الانتهازيين في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً (أي سلوكاً مغلفاً بمظاهر الاتزان والذكاء والشطارة) يزيفون الحقائق فينسبهم أهل الجهل إلى حسن الحيلة ويعنون بذلك التدبير الجيد وهي لا تخفى على الحكيم العالم ولكنه يرى دونها حرام الله وحلاله فيتجنبها مع قدرته عليها ولكن الانتهازي بما أنه لا حريجة له في الدين ينتهز فرصتها ويغتنمها للوصول إلى غاياته الدنيئة. أما لماذا تتحول المفاهيم في المجتمع الفاسد بهذه الطريقة رأساً على عقب؟! فلها أسباب كثيرة يأتي في صدارتها ضعف الإيمان وتزلزل العقيدة في النفوس وتفشي الثقافة المتخلفة السلبية التي تنسجم مع ميول الإنسان الطبيعية وخلوده للراحة وانشداده للمصلحة.
(ولأن الغالب من أبناء اجيال امتنا المعاصرة قد انحدرت من اجيال التخلف والانحطاط، ولم تحظ بتربية رصينة وأن البيئة التي نشأت فيها هذه الأجيال تعج بالفساد والانحراف،.. ولذلك فإن الغالب في نفسية أبناء امتنا الآن أنها نفسيات تتوالد فيها العقد، وتتفشى فيها السلبيات فالانانية والروح المصلحية هي السمة البارزة لنفوس أكثرية أبناء الامة، حيث يعيشون كالانعام بل اضل سبيلا، لا تهمهم المصلحة العامة، ولا يدافعون عن حريتهم، ولا يتمسكون بكرامتهم.. بل يحرص كل فرد على توفير الراحة والمتعة واللذة لذاته غير عابئ بواقع امته واوضاع مجتمعه)(14).
ومهما تكن الأسباب والتي قد ذكر أكثرها إلا أن النتيجة واحدة وهي انقلاب المفاهيم والقيم وقراءتها بصورة مقلوبة كالذي رأسه إلى تحت ورجليه إلى السماء وهذا هو مركز الخطر الجدي الذي تزرعه الروح الانتهازية في المجتمع ومنها تنشأ جميع السلبيات والثقافات المشوهة والانتهازية في مواجهة الأحداث حينما يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتفقد الأمة قدرتها على الإبداع واثراء العالم بنتاجها الفكري والعلمي ويصبح التخلف هو الميزة الوحيدة التي تميزنا بعد أن تضرب بأطنابها في جميع مفاصل الحياة كانعكاس منطقي لزمان اتخذ أكثر أهله الغدر صفة ملازمة لسلوكهم.
فلا ينتج الصدق والوفاء إلا مكارم الأخلاق وزرع الفضيلة في المجتمع، يذكر التاريخ أن ملك الحيرة النعمان كان له يوم نحس في كل سنة يتطير منه ويأمر بقتل أول شخص يصادفه في ذلك اليوم وكان أن صادفه ذلك اليوم رجل من قبيلة طي فما أن وقع بصره عليه حتى أمر بقتله فاستمهله الرجل الطائي حتى المساء لكي يرى أهله ويودعهم.
فقال النعمان: يجب أن تأتيني بضامن يضمن عودتك اقتله إن لم ترجع. فضمنه شريك بن عدي وكان نديماً للملك.
فعندما حل المساء رجع الطائي مسرعاً وهو يلهث أن لا يقتل ضامنه فتعجب النعمان من وفائه للعهد وقال له يا طائي: ما تركت لأحد في الوفاء مقاماً يفتخر به. والتفت إلى نديمه شريك وقال له: يا شريك ما تركت لكريم سماحة، فلا أكون أنا ألأم الثلاثة، ألا وإني قد رفعت يوم نحسي وبؤسي عن الناس ونقضت عادتي. ثم سأل الطائي:
ما حملك على الوفاء وفيه اتلاف نفسك؟
فقال الطائي: من لا وفاء له لا دين له.
كيف تناول القرآن الانتهازيين
يعرض القرآن الكريم فئات من المجتمع كانت تمارس الانتهازية وتنتحلها صفة ملازمة لها ولذلك ينعتهم الله بصفاتهم ولعله من باب إطلاق الجزء على الكل وسيتبين ذلك من خلال عرض تلك الآيات البينات التي توغلت إلى دواخل نفوسهم ففضحت نواياهم وكشفتهم على حقيقتهم وفي هذه التصنيفات التي تحمل الكثير من صفاتهم النابعة من الكذب المتأصل لديهم فهي تقسيمات فئوية تلتقي جميعها في صفة عامة وهي الانتهازية.
يقول الله عز وجل:
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لاِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ اِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ اِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ اُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا يَحْسَبُونَ الأَحـــْزَابَ لَمْ يَذْهــــَبُوا وَاِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الاَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْكَانُوا فِيكُم مَا قَاتَلُوا اِلاَّ قَلِيلاً)(15).
ترسم الآية صورة بديعة من نفسية الانتهازيين ونموذجهم المتزلزل بين الناس والذي سيتكرر عبر الزمان فهم صورة للجبن والخوف، والفزع والهلع ساعة الاختبار والشدة، والانتعاش وسلاطة اللسان عند الطمأنينة والرخاء، لا يحبون أن يبذلوا أي جهد، وترتعد مفاصلهم عند توهم الخطر ولو من بعيد، ولا يشعرون بالانتماء العقائدي، ويرون نوال الدنيا مكسباً كبيراً وفوزاً عظيماً فهم يمتلكون هذه الصفات (اليأس، التخاذل، الانعزال، الاحتيال، الذلة، الجبن، الخوف على الحياة ولذائذها، والترف).
ويصنفهم القرآن الى فئات حسب مواقفهم من أية قضية على انفراد ولعلها ستكون مجتمعة فيهم فيما لو اتحدت تلك الظروف منهم المتمردون والمرتابون (انما يستـأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر)(16).
وهم المتثاقلون كما يعبر عنهم القرآن (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ارضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة)(17).
والمترفون (إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف)(18).
وهم العقبة التي تعترض طريق الرسالة والنبوة (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم الينا ولا يأتون البأس الا قليلاً)(19).
والمتباطئون (وأن منهم لمن يبطئن فإن اصابتكم مصيبة... الخ)(20).
فهؤلاء هم الانتهازيون وتلك هي صفاتهم وسلوكياتهم قد استعرضنا في هذا البحث بايجاز الكثير منها، ويشكلون إحدى ظواهر المجتمع السلبية على جميع الاصعدة ويجب معالجتها لكي تستطيع الأمة السير بخطوات حثيثة نحو الأهداف المنشودة وإلا فسوف لا تراوح الأمة في مكانها ولا تتقدم وإنما سترجع القهقري أو تهوي إلى واد سحيق، أما سبل العلاج وما يتبعه من استعراض لحالة الانتهازية السياسية والاجتماعية والدينية وغيرها فسنفرد لها بحثاً آخر إنشاء الله.
الهوامش
1 الأنفال، آية 24.
2 منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ص51، ج4، الخوئي، الخطبة 32.
3 ص31 من قصص التاريخ، الإمام الشيرازي.
4 الرأي العام الإسلامي وعناصر التحريك، زهير الاعرجي، ص23.
5 شرح النهج المعتزلي (ابن أبي الحديد) ج2، ص44.
6 تاريخ الطبري، ط الاستقامة، ج2، ص449.
7 الرأي العام الإسلامي وعناصر التحريك، ص26.
8 الاحتجاج، ج1، ص403، البحار، ج44، ص71.
9 تهذيب تاريخ دمشق، ج4، ص70.
10 البداية والنهاية، ج9، ص232.
11 مروج الذهب، ج3، ص32، الغدير، ج1، ص196.
12 الحياة السياسية للإمام الحسن، ص70، جعفر مرتضى العاملي.
13 منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ص189، ج4، الخطبة 41، الخوئي.
14 التغيير الثقافي اولا، ص107، حسن الصفار.
15 آية 18، الأحزاب.
16 التوبة، 45.
17 التوبة، 38.
18 التوبة، 93.
19 الأحزاب، 18.
20 النساء، 72.