ستعين أهل المأتم من الوجهاء في العراق قديما " بالباكيات " : و هن نخبة من النساء , ليس لهنٌ من علاقة بالمتوفٌي , إلا "لتحمية " المأتم بالبكاء و النحيب على الميت , و تعداد محاسنه , و إظهار الاسف على فراقه . يمضين بجدٌ في مهمتهن ثلاثة أيام بلاياليها , و من دون مقابل , إلا بما يملا بطونهن من بقايا موائد مأتم الوجهاء الدسمة .
مهمتهن لا شبيه لها إلا لذلك الدور المنوط بالمعلٌمين القدماء " ذوي التصنيف القديم " حين ندعى و نجر من إضراب الى أخر و من وقفة إلى أخرى لعبنا كل الادوار الاساسية لأن استجابتنا أسرع و أعدادنا أكبر و لم نجني إلا الخيبة تلو الاخرى تفوقت علينا "الباكيات العراقيات" بمائدة دسمة لقاء مجهودهن لأن مائدتنا تهديد و تعنيف و خصم من الراتب و المردودية و مطالب مؤجلة .
كنا الطليعة في كل الاضرابات , تنجح بوقوفنا و سدجتنا أيضا , تدرس المطالب و يستجاب للمعظم منها ,و تهمل بالطبع مطالبنا ,حتى يحتفظ بنا للإحتفال المقبل لأن دورنا حدد لإظفاء الطابع التعبوي و العددي ليس إلا . يسموننا أهل السينما " بالكومبارس " و يدعوننا أهل الرياضة " بأرانب السباق " و يتفكٌه بنا في بعض مناطق الجنوب " بدرعين البالطو , Les manches du manteau " .
لم يخطر ببالنا ,و لم نتصور, و لم نطلع في عالم الاحياء و الاموات و الجماد , أن يتطوع الضحية للدٌفاع عن جلاٌديه ,حيث ندفع لاضراب, لنا به شبه مطلب في ذيل قائمة ,مأله الإهمال مع سبق الإصرار, و حين تتمٌ الاستجابة أخيرا ؟ إنها لمطالب ليس لنا ناقة فيها و لا جمل , و تثمينا لمجهوداتنا ومكافأة لسدجتنا , يرقى المديرو المفتش دوننا الى درجة أعلى و تستحدث قوانين تسرع بالتخلص منا .الاول و الثاني استفاذا دون أن يضربا أويطلبا او يحتجا يوما ,فالاول كان يحصي حركاتنا و سكناتنا محذرا أيانا من خطورة العمل اللا وطني دون ان يغفل عن الاجراء المحبب لديه و هو: الخصم من الراتب و المردودية و تسجيل الغياب .و الثاني يتحيٌن أيام الاضراب للقيام بزيارتنا حتى يبالغ في إهانتنا .و أخر إنجاز لنا , قانون صخري يسد نسائم ترقياتنا فلن نصل الى درجة الاستاذ الرئيسي و الاستاذ المكون ثم المدير حتى و لو بلغنا من العمرعمر سيدنا نوح "عليه السلام"
يقوم على مدرستنا اليوم نوعين من الناس يمارسان نفس الدور و مطالبان بالنتائج نفسها أحدهما يصنف 11 و الاخر 14 :أحدهما محظوظ راتبا و تصنيفا , يمد رجليه يمينا و شمالا ,له من الفرص ما يمكنه من التسلق و الارتفاع نحو كل الاتجاهات, و لا يعنيه ما يقدمه من مجهود في الميدان... لأنه ببساطة وصل إلى قمة الهرم و ثانيهما متذمر و منكسر الخاطر عليه ان يرضى بالبقاء حيث هو. و لا يعنيه هو أيضا ما يقدمه من مجهود في الميدان لأنه ببساطة لا يمكنه أن يجتاز موقعه و لا يعتد بمجهوده .
فالمدرسة مقبلة , مع الاسف ,على نوع أخر من الإخفاق . فبعدما تم وضع بعض الضمادات الغير المعقمة على الجراح السابقه ,ستعود تلك الجراح لتفتك بالجسد كله حين لا ينفع التطبيب و هي تذكرنا بزمن بداية الانحطاط الذي وصلت اليه الامة الاسلامية بعد سقوط دولة بني أمية , حينما جاء العباسيون و ما بعد العباسيين أنقلبت معهم المفاهيم و أضحت بطاقة الانتماء و القرب لال البيت و للصحابة عنوان للوصول الى الحكم ,و ليس القدرة و الكفأة الميدانية .فظهر الفاطميين , العلويين , العثمانيين و أقرباء الصحابي أبابكر و عمر و حتى القريشيين و الهاشميين و لم تختم تلك الحقبة المظلمة من تاريخ الامة إلا بحقبة إستعمارية أكثر ظلاما .
ما زالت الخيوط في متناول اليد ,إذ أردنا إعادة ترتيبها , عليهم أن يقنعوننا بعدم جدوى مطالبنا ,و يواجهوا حكم التاريخ لنا ام عليهم, و على جلادينا أن يكتفوا بما حققنا لهم .